سؤال حول كلام للشيخ ابن باز رحمه الله



س88: ورد في الحوار الذي تم في شريط " الدمعة البازية " بين الشيخ ابن باز رحمه الله وبين بعض المشايخ حول مسألة الحكم بغير ما أنزل الله، هذه بعض المقتطفات منه، مع عدم مراعاة الترتيب، ويمكنكم الرجوع إليه عبر هذا الربط ...
          قال أحد الحضور: ما الدليل على كون الكفر المذكور في القرآن أصغر ] فأولئك هم الكافرون [ أقول ما هو الصارف مع أنها جاءت بصيغة الحصر ؟
          فقال الشيخ: هو محمول على الاستحلال على الأصح، وإن حمل على غير الاستحلال فمثل ما قال ابن عباس: يُحمل على كفر دون كفر، وإلا فالأصل هم الكافرون .

          فتدخل بعضهم قائلاً: نعم، يعني ما الذي جعلنا نصرف النص عن ظاهره ؟
          فقال الشيخ: لأنه مستحل له، وذلك في الكفار الذين حكموا بغير ما أنزل الله، حكموا بحل الميتة، حكموا بأشباهه، أما لو حكم زيد أو عمر برشوة نقول كفر ؟!! ما يكفر بهذا، أو حكم بقتل بغير حق لهواه ما يكفر بذلك.
          قال أحد الحاضرين: هو الإشكال الكبير في هذا المقام ـ عفا الله عنك ـ مسألة تبديل الأحكام الشرعية بقوانين ..!
          فقاطعه الشيخ ابن باز رحمه الله بقوله: هذا محل البحث إذا فعلها مستحلاً ...!
          فقاطعه السائل نفسه بقوله: وقد يدعي أنه غير مستحل ؟
          فقال الشيخ رحمه الله: إذا فعلها مستحلاً لها يكفر، وإذا فعلها لتأويل لإرضاء قومه أو لكذا وكذا .. يكون كفراً دون كفر، ولكن يجب على المسلمين قتاله إذا كان عندهم قوة حتى يلتزم، من غير دين الله بالزكاة أو غيرها يُقاتل حتى يلتزم.
          وقال السائل: وضع مواد .. عفا الله عنك ؟
          قال الشيخ: الأصل عدم الكفر حتى يستحل، يكون عاصياً وأتى كبيرة ويستحق العقاب، كفر دون كفر حتى يستحل.
          فقال أحدهم: لو حكم ـ حفظكم الله ـ بشريعة منسوخة كاليهودية مثلاً، وفرضها على الناس وجعلها قانوناً عاماً، وعاقب من رفضه بالسجن والقتل والطرد وما أشبه ذلك ؟
          فقال الشيخ رحمه الله: ينسبه إلى الشرع ولا لا ـ يعني أو لا ـ أما إذا كان نسبه إلى الشرع يكفر، وأما إذا ما نسبه إلى الشرع، يرى أنه قانوناً يصلح بين الناس ما هو بشرعي ما هو عن الله ولا عن رسوله يكون جريمة، ولكن لا يكون كفراً أكبر فيما أعتقد.
          قال أحد الحضور: ابن كثير ـ فضيلة الشيخ ـ نقل في البداية والنهاية الإجماع على كفره كفراً أكبر.
          قال الشيخ ابن باز: لعله إذا نسبه إلى الشرع ..
          فقال: لا، قال ـ أي ابن كثير ـ: من حكم بغير شريعة الله من الشرائع المنزلة المنسوخة فهو كافر فكيف من حكم بغير ذلك من آراء البشر لا شك أنه مرتد ...
          فقال الشيخ ابن باز رحمه الله: ولو، ولو، ابن كثير ما هو معصوم، يحتاج تأمل، قد يغلط هو وغيره، وما أكثر من يحكي الإجماع .." انتهى ملخصاً.
          فما تقييمكم للكلام السابق كله وفق معتقد أهل السنة والجماعة في مسائل الإيمان والكفر، وجزاكم الله خيراً، وأجزل لكم المثوبة والأجر ؟
          الجواب: الحمد لله رب العالمين . فقد اطلعت على كامل الحوار الذي دار بين بعض الشيوخ الأفاضل، وبين الشيخ ابن باز رحمه الله، من خلال الموقع على الإنترنت، والمشار إليه في السؤال .. أسجل عليه الملاحظات التالية:
          1- يوجد فرق بين الحاكم الذي يحكم بغير ما أنزل الله ويقتصر عمله على ذلك .. وبين الحاكم المشرع الذي يشرع التشريعات والقوانين التي تضاهي وتغاير شرع الله تعالى .. وبين الحاكم الذي يعمل على تبديل شرائع الإسلام بشرائع الكفر والطغيان، ليحكم بها البلاد والعباد ..!
          الأول وهو الذي يقتصر عمله على الحكم بغير ما أنزل الله .. هو الذي حصل عليه الخلاف بين أهل العلم، ولم يكتفوا بالحكم عليه بالكفر لمجرد فعله من دون النظر إلى الباعث الذي حمله على الحكم بغير ما أنزل الله .. هل الشهوة والهوى، أم الاستحلال والجحود .. وعليه وحده يُحمل كلام ابن عباس وغيره من أهل العلم: كفر دون كفر .. ووفق ضوابط وشروط؟ 
          مع اتفاق أهل العلم على أمرين لا بد من الإشارة إليهما:
          أولهما: اتفاقهم على كفر الحاكم الذي لا يحكم بما أنزل الله في مسائل التوحيد .. أو يحكم بالشرك، ولصالح الشرك .. ومن دون النظر إلى باعث الاستحلال أو الجحود .. لإقراره الكفر والشرك.
          ثانياً: أن يكون الحكم بغير ما أنزل الله بالنسبة له منهج حياة .. وهو الأصل والمعمول به في جميع شؤون الحياة .. فهذا الحاكم أيضاً يكفر بعينه، من دون النظر إلى الباعث الذي حمله على ذلك
هل الاستحلال والجحود أم غير ذلك .. لوقوعه في كفر الإعراض والتولي.
          أما الحاكم الثاني: الذي يقوم بمهمة سن التشريعات والقوانين المضاهية والمخالفة لشرع الله تعالى، ليحكم بها البلاد والعباد، ولتصبح دستوراً متبع لا تجوز مخالفته، والذي يقع في مخالفته يُعرض لعقوبات وفق قوانين أخرى قد سنها هو أو غيره من البشر .. أقول: هذا الحاكم بالوصف المتقدم لا شك بكفره بعينه، وهو كافر بالنص والإجماع، لا يجوز التوقف في ذلك البتة .. كما لا يجوز تعليق تكفيره إلى أن يعرف اعتقاده؛ هل فعل ذلك عن استحلال أم لا .. فإن كان عن استحلال يكفر، وإن كان عن غير ذلك لا يكفر ..!!
          وذلك لأسباب منها: أن هذا الحاكم بصفاته الآنفة الذكر قد خاصم الله تعالى في صفاته وأخص خصائصه ألا وهي خاصية الحكم والتشريع .. وجعل من نفسه إلهاً ونداً لله عز وجل .. سواء اعترف بذلك أم أنه لم يعترف، وعليه يُحمل قوله تعالى:] ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [.
          ومنها: أن الله تعالى قد سماه طاغوتاً واعتبر من أراد التحاكم إليه من دون الله تعالى فهو كافر .. فيكون هو ـ أي الحاكم المشرع ـ أولى بالكفر وأن يكون من الكافرين، كما قال تعالى:] ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبل يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به [. فاعتبر الله تعالى إيمانهم زعماً لا حقيقة لمجرد أنهم يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وإلى شريعته .. فكيف بالطاغوت المشرع ذاته .. لا شك أنه أولى بالكفر!
          ومنها: أنه يكفر حتى على شروط الاستحلاليين؛ فهو إذ يشرع التشريعات التي تضاهي شرع الله وتغايره .. فهو بذلك يحلل ما حرم الله، ويحرم ما أحل الله .. وما من قانون يصدره للناس إلا ويفيد الإباحة أو الوجوب أو الحظر .. وهذا هو عين ونفس الاستحلال!
          هذه قوانين مشرعي أهل الأرض كلها .. انظروا إليها .. فستجدونها تبتدئ بعبارة يُسمح .. أو لا يُسمح .. يجوز لمن فعل كذا وكذا .. لا يجوز كذا وكذا .. ممنوع .. وغير ممنوع .. ومن فعل كذا فعليه العقوبة أو الغرامة .. وغير ذلك من العبارات الاستحلالية التي تصب كلها بخلاف ما أمر الله تعالى وشرع لعباده ..!
فإذا لم يكن هذا هو عين الاستحلال لما حرم الله فما يكون الاستحلال .. وبخاصة إن ضم إلى استحلاله هذا الذود والقتال والجدال عن قوانينه وشرعه كما هو حال جميع طواغيت الحكم في زماننا المعاصر وبدون استثناء ؟!!
فإن قالوا هذا لا يكفي .. ولا بد من أن ينطق بعظمة لسانه أنه مستحل لهذه القوانين في قلبه كما استحلها على الورق وفي واقع أمته ..؟
نقول لهم حينئذٍ: قد سبقتم جهماً الضال سبقاً بعيداً .. وقلتم قولاً لم يتفطن له هو ولا من تبعه قبلكم .. وخلافنا معكم لم يعد في إنزال حكم على معين .. وإنما هو خلاف في الأصول والقواعد .. خلاف أصول وقواعد أهل السنة والجماعة .. مع أصول وقواعد أهل التجهم والإرجاء!
أما الحاكم الثالث: وهو الحاكم الذي يقوم بإقصاء أحكام الشريعة واستبدالها بأحكام وشرائع الطاغوت .. فهذا كذلك لا شك في كفره بعينه، ومن دون النظر إلى الباعث الذي حمله على هذا الفعل هل الاستحلال والجحود أم غير ذلك .. فهو كفر مجرد لذاته لأنه لا يمكن أن يصدر إلا من كافر معاند كاره لشرع الله تعالى، عدو لله ولرسوله وللمؤمنين.
وهو كافر كذلك لوقوعه في التحاكم الجلي الصريح إلى شرائع الكفر والطغيان ..!
وهو كافر كذلك لوقوعه في الإعراض والتولي عن أحكام الشريعة ..!
وهو كافر كذلك لتعطيل الحكم بالتوحيد ..! 
وهو كافر كذلك لإجباره الناس في أن يتحاكموا إلى شرائع الطاغوت ..!
وهو كافر كذلك لاستحسانه شرائع الكفر وتفضيلها على شرائع الرحمن .. فإن قيل لم ينطق بذلك ؟
نقول لو تتبعتم أقواله وآثاره لوجدتم أنه ينطق بذلك قولاً وعملاً .. وإن لم تسمعوا منه القول فإنكم ترون منه العمل وهو أصرح دلالة على التفضيل والتحسين ..!
ثم نسأل ما الذي حمله على تبديل مطلق الشريعة بشرائع الطواغيت ..؟!
فإن قلتم خوفه على الكرسي فأطاع اليهود والنصارى في ذلك ليبقوا عليه وعلى حكمه وعرشه .. نقول هذا كفر آخر يزيد الكفر كفراً، فضلاً عن أن يكون مبرراً لفعل الكفر؛ كما قال تعالى:] وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [. إنهم لمشركون إن أطاعوهم في حل أكل الميتة فقط .. فكيف بمن يطيعهم في إقصاء شرع الله تعالى كلياً واستبداله بشرائع الكفر والطغيان .. لا شك أنه أولى بقوله تعالى:] وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب كما في مجموعة التوحيد: أن يوافقهم ـ أي يوافق المشركين ـ في الظاهر مع مخالفته لهم في الباطن، وهو ليس في سلطانهم، وإنما حمله على ذلك إما طمع في رئاسة أو مال، أو مشحة بوطن أو عيالٍ، أو خوف ما يحدث في المال، فإنه في هذه الحال يكون مرتداً ولا تنفعه كراهته لهم في الباطن، وهو ممن قال الله فيهم:] ذلك بأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة، وأن الله لا يهدي القوم الكافرين [ ا- هـ.
قلت: كيف بمن يوافقهم على تنحية شرع الله تعالى كلياً عن الوجود، ويستبدلها بشرائعهم الباطلة .. لا شك أنه أولى بالكفر والردة .
فإن قلتم: حمله على ذلك العداوة والبغضاء لله ولرسوله وللمؤمنين ـ وليس لكم أن تقولوا غير ذلك ـ نقول لكم: صدقتم، وهذا عين الكفر البواح.
خلاصة القول: أن الشيخ ابن باز في كلامه المتقدم لم يفرق أو يميز بين هذه الأصناف الثلاثة من الحكام وجعل حكمهم كلهم حكماً واحداً من حيث وجوب توفر شرط الاستحلال لحكمهم بغير ما أنزل الله لنتمكن بعد ذلك من القول بكفرهم، فجعل الصنف الثاني والثالث المتفق على كفرهما بالنص والإجماع .. كالأول الذي ينبغي بحقه التفصيل قبل الإقدام على تكفيره .. هذا الخطأ من الشيخ هو الذي حملنا على ذكر التفصيل المتقدم.
2- قال الشيخ ابن باز رحمه الله:" إذا فعلها ـ أي حكم بغير ما أنزل الله ـ لتأويل، لإرضاء قومه أو لكذا وكذا يكون كفراً دون كفر، ولكن يجب على المسلمين قتاله إذا كان عندهم قوة حتى يلتزم ..! " ا- هـ.
أقول: هذا الكلام المتقدم للشيخ هو مخالف لقوله -صلى الله عليه وسلم-:" إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم من الله فيه برهان ".                                                                       
وهو مخالف كذلك لما استقر عليه إجماع أهل السنة والجماعة بأن الإمام أو الحاكم لا يخرج عليه بالقوة لمجرد الفسق أو وقوعه في الذنب ما لم يرق هذا الذنب إلى درجة الكفر البواح الذي لا يحتمل تأويلاً ولا تصريفاً، والذي عليه دليل صريح من الكتاب أو السنة.
قال النووي في شرحه للحديث " إلا أن تروا كفراً بواحاً ": وأما الخروج عليهم وقتالهم فحرام بإجماع المسلمين وإن كانوا فسقة ظالمين، وقد تظاهرت الأحاديث بمعنى ما ذكرته، وأجمع أهل السنة أنه لا ينعزل السلطان بالفسق .. ا- هـ.
3- قال السائل: لو حكم ـ حفظكم الله ـ بشريعة منسوخة كاليهودية مثلاً، وفرضها على الناس، وجعلها قانوناً عاماً، وعاقب من رفضه بالسجن والقتل والتطريد وما أشبه ذلك؟
فأجاب الشيخ ابن باز:" ينسبه إلى الشرع ولا لا .. إذا نسبها إلى الشرع يكون كفراً .. وأما إذا ما نسبه إلى الشرع لا يكون كفراً أكبر فيما أعتقد ..!! " ا- هـ.
أقول: تقييد كفر هذا الحاكم ـ بصفاته الواردة في السؤال ـ بشرط أن ينسب حكمه بشرائع اليهود المنسوخة إلى الشرع .. هو خطأ ظاهر، كنا نرجو أن لا يقع فيه الشيخ .. وذلك للأسباب التالية:
منها: أن هذا القول شاذ غريب ليس للشيخ فيه سلف معتبر .. فضلاً عن وجود الدليل الشرعي الذي يدل عليه، ولو تلميحاً ..!!
ومنها: أن عشرات النصوص الشرعية ـ إن لم تكن المئات ـ تفيد كفر هذا النوع مـن الحكام، نذكر منها قوله تعالى:] فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجاً مما قضيت ويسلموا تسليماً [.
وقال تعالى:] أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكماً لقومً يوقنون [ .
وقال تعالى:] فليحذر الذين يخالفون عن أمره أن تصيبهم فتنة أو يُصيبهم عذاب أليم [.
وقال تعالى:] قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله [.
وقال تعالى:] يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم [.
وقال تعالى:] وإن أطعتموهم إنكم لمشركون [.
فهذه الآيات ـ وغيرها كثير من الآيات والنصوص ـ كلها تفيد وتدل دلالة صريحة على  كفر هذا الحاكم الوارد ذكره في معرض السؤال .. ولو تتبعنا أقوال العلماء والمفسرين لهذه الآيات لوجدناها كلها تجمع على كفر هذا الحاكم كفراً أكبر.
ثم أيهما أكفر .. من يطيع المشركين في تحليل أكل الميتة .. أم من يطيعهم في سلخ الأمة من هويتها وشريعتها .. وفي فرض شرائعهم الكافرة على الأمة .. يسجن ويقتل عليها كل من يخالفه فيها  كما ورد في السؤال .. أهذا عندكم لا يكفر .. والذي يطيعهم في استحلال أكل الميتة يكفر؟!!
ثم ما الذي يميز أمة الإسلام إذا انسلخت من هويتها وشريعتها وعقيدتها .. وحُكمت بشرائع الأمم الأخرى .. وهل صراع أمم الكفر مع أمة الإسلام إلا صراع حول الشرائع والقوانين التي تحكم العباد والبلاد ..؟!!
ومنها: أن الذي يحكم الأمة والشعوب بشريعة من عند نفسه هو أشد كفراً وتألهاً ممن يحكم الشعوب بشريعة يزعم أنها من الشرع .
قال ابن كثير كما في كتابه البداية والنهاية: فمن ترك الشرع المحكم المنزل على محمد بن عبد الله خاتم الأنبياء، وتحاكم إلى غيره من الشرائع المنسوخة كفر، فكيف  بمن تحاكم إلى الياسق وقدمها عليه، من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين ا- هـ.
وقدح الشيخ ابن باز بالإجماع الذي نقله الحافظ ابن كثير مردود عليه، وغير معتبر؛ لأنه لم يذكر دليلاً واحداً، أو قولاً واحداً لعالم معتبر يرد هذا الإجماع الذي ذكره ابن كثير .. وأنَّى!
ومنها: كيف يمكن أن نوفق بين فعل هذا الحاكم والمتمثل بسلخ الأمة من شريعتها وأحكامها، واستبدالها بشرائع الكفر والطغيان .. وقتاله عليها .. ومطاردته لمعارضيها .. وبين القول بأن الإيمان: اعتقاد وقول وعمل، يزيد وينقص .. وبين العلاقة المطردة بين الظاهر والباطن .. كيف نتصور ظاهر كافر متمرد على شرائع الله تعالى .. وباطن مؤمن منقاد ومحب لشرع الله تعالى ..؟!! 
فقول الشيخ المتقدم ـ عند التحقيق والبحث ـ تجده معارض لأصول أهل السنة والجماعة التي منها أن الإيمان يكون بالاعتقاد والقول والعمل، يزيد وينقص .. وأن الكفر يكون كذلك بالاعتقاد والقول والعمل .. وأنه يتفاضل، ويزيد وينقص كذلك.
ومن هذه الأصول السنية كذلك التي يصادمها قول الشيخ: العلاقة المتبادلة والمؤثرة والمتأثرة بين الظاهر والباطن .. وأن الظاهر لا يمكن أن يسير في اتجاه يخالف فيه مسار الباطن، والعكس كذلك ..؟!!
4- يرد شرط الاستحلال عندما يُراد الحكم على معين يقع في معاص وذنوب هي دون الكفر والشرك؛ فيقال مثلاً: السارق .. أو شارب الخمر .. أو المرابي .. أو الزاني لا يكفر حتى يستحل ذلك، فإذا فعل هذه الذنوب أو بعضها على وجه الاستحلال يكفر.
أما إذا وقع في الكفر والشرك ـ كشرك الطاعة والتحاكم إلى شرائع الطاغوت ـ لا يجوز أن يشترط لتكفيره استحلال الشرك والكفر؛ لأن الشرك شرك وكفر لذاته من وقع به كفر وأشرك على أي وجه فعله؛ فعله مستحلاً له أم لم يكن مستحلاً .. واشتراط الاستحلال عند فعل الكفر والشرك البواح هو عين مذهب جهم الضال!!
والمتتبع لكلام الشيخ ـ كما في حواره مع الشيوخ ـ يجد أنه لم يفرق بين الذنب الذي هو دون الكفر الذي يُشترط لتكفير صاحبه الاستحلال، وبين الكفر والشرك ـ كشرك التحاكم إلى شرائع الطاغوت ـ الذي لا يُشترط لتكفير صاحبه الاستحلال ..!!
5- قال الشيخ ابن باز رحمه الله: يقاتل قتال المرتدين إذا دافع .. لأن دفاعه عن الحكم بغير ما أنزل الله مثل دفاعه عن الزكاة وعدم إخراج الزكاة بل أكبر وأعظم، يكون كفراً .. إذا دافع عن الحكم بغير ما أنزل الله وقال ما أرجع فهو دفاع المستحل؛ يكون كافراً .. يُقاتل فإن قاتل كفر، وإن لم يقاتل لم يكفر يكون حكمه حكم العصاة ا- هـ.
أقول: هذا الكلام مشكل على الشيخ من أوجه:
منها: إنه دليل على اضطرابه في المسألة؛ فمن قبل أجاب عن الحاكم الذي يحكم بشريعة منسوخة .. ويُعاقب بالسجن، والقتل، والطرد كل من خالفه أو اعترض عليه بأن كفره كفر دون كفر .. وهنا يقول بأنه إذا قاتل عليها ودافع عنها يكفر .. علماً أن القتل عليها أبلغ من القتال عليها .. وأن يصل به الحال أن يسجن ويطرد المخالفين لها لهو أبلغ من مجرد الدفاع عنها .. فعلام الأول يكفر والآخر لا يكفر .. وعلام الأول لا يكون دليلاً على الاستحلال، والآخر يكون دليلاً على الاستحلال .. وما الدليل على هذا دون ذاك ؟!!
ومن اضطرابه كذلك: قوله في أول حديثه" يكون كفراً دون كفر، ولكن يجب على المسلمين قتاله "؛ أي رغم عدم كفره، وهنا يقول:" إذا قاتلوه وقاتلهم يكون كافراً " ..؟!!
          ومنها: أن القتال ليس دائماً دليلاً على الاستحلال .. وإلا لعد قتال أهل المعاصي عن معاصيهم، ودفاعهم عن خمورهم ومخدراتهم .. وقتال البغاة عن بغيهم .. دليلاً على استحلالهم المعاصي والبغي .. وبالتالي يقاتلون قتال أهل الكفر والردة .. وهذا قول مؤداه ولا بد للقول بمذهب الخوارج في أهل الذنوب والمعاصي !! 
          ومنها: أنه يمكن أن يُرد على الشيخ بنفس كلامه، وأدلته وقواعده التي رد فيها كفر المبدل لشرائع الله تعالى، فيقال له: بس .. قاعدة .. قاعدة .. لازم الحكم ليس بحكم .. لازم المذهب ليس بمذهب ..!!
          ومنها: أن ما من حاكم ولا طاغوت يحكم المسلمين في هذا الزمان إلا وهو يُقاتل قتال المستميت دفاعاً عن قوانينه وحكمه، ودستوره .. ويدافع عنها أكثر مما يدافع عن نفسه .. ومع ذلك نجد مشايخنا يمسكون عن القول بكفرهم ؟!!
          فعلام عند التنظير والتأصيل نكفرهم .. وعند إنزال الأحكام على أرض الواقع لتأخذ طريقها إلى هؤلاء الطواغيت لا نكفرهم .. ونتوسع في التأويل لهم ؟!!
          فانظر مثلاً ماذا يقول الشيخ بعد أن ذكر قاعدته في كفر من يقاتل دفاعاً عن الحكم بغير ما أنزل الله .. عندما تناول الكلام حكام مصر الذين عرفوا بعدائهم الشديد لشرع الله تعالى، وبقتالهم العنيف والمستميت عن قوانينهم الباطلة، وحكمهم الذي هو حكم بغير ما أنزل الله:" الظن في حكام مصر وغيرها ـ الله لا يبلانا ـ هو الظن فيهم الشر والكفر، لكن بس يتورع الإنسان عن قوله كافر، إلا إذا عرف أنه استحله، نسأل الله العافية " ا- هـ. 
          فالقضية عند الشيخ على وضوحها وجلائها لا تتجاوز عنده درجة الظن .. وعلى جلاء ووضوح كفر طواغيت مصر فهو يتورع أن ينزل فيهم كلمة كافر؛ لأنه لم يظهر للشيخ بعد أنهم استحلوا الكفر ..؟؟!!
          6- كلام الشيخ المثبت هنا معارض ومخالف لكلامه السابق .. وإليك بعض أقواله السابقة في المسألة كما في رسالته وجوب تحكيم شرع الله الواسعة الانتشار، حيث قال:" لا إيمان لمن اعتقد أن أحكام الناس وآراءهم خير من حكم الله ورسوله، أو تماثلها وتشابهها، أو تركها وأحل محلها الأحكام الوضعية، والأنظمة البشرية، وإن كان معتقداً أن أحكام الله خير وأكمل وأعدل " !
          قلت: تأمل كيف أنه اعتبر مجرد الترك واستبدال الشريعة بالأحكام الوضعية كفر ينفي الإيمان عن صاحبه ..؟!!
          وقال: فمن خضع لله سبحانه وأطاعه وتحاكم إلى وحيه، فهو العابد له، ومن خضع لغيره وتحاكم إلى غير شرعه، فقد عبد الطاغوت وانقاد له، كما قال تعالى:] ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما انزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً [.
          والعبودية لله وحده والبراء من عبادة الطاغوت والتحاكم إليه من مقتضى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله ا- هـ.
          والآن يحق لنا أن نسأل ونتساءل: أي القولين هو قول الشيخ .. وأيهما ناسخ للآخر .. وهل في الكفر والإيمان ناسخ ومنسوخ .. أم أن ضغط طواغيت الساسة كان يحتم على الشيخ مثل هذا التقلب والتغير ..؟؟!!
          رحل الشيخ ـ رحمه الله ـ وقد ترك فراغاً كبيراً في هذا الجانب .. رحل الشيخ ـ رحمه الله ـ ولم يشف غليل الموحدين بكلمة حق في هؤلاء الطواغيت الجاثمين على صدر ومقدرات الأمة .. وما أحوجنا إليها .. رحل الشيخ ـ رحمه الله وعفا عنه ـ وقد فصل في كل شيء إلا في مسألة توحيد الحاكمية والتشريع .. إلا قضية هؤلاء الطواغيت .. إلا قضية هذه الأنظمة الكافرة المفروضة على العباد والبلاد، والتي تكاد تسلخ الأمة من دينها وعقيدتها .. فإنه لم يفصل فيها .. وتركها مبهمة مائعة تتسع لخوض كل الخائضين .. وتأويل كل المتأولين .. وهكذا كذلك الشيخ ناصر، والشيخ ابن عثيمين .. رحمهم الله أجمعين