شبهات بخصوص الانتخابات

س1167: حفظك الله وجزاك الله خيراً، لي سؤال متعلق بمسألة الإنتخابات الجاهلية:
 
أهل الأهواء لهم شبه كثيرة، رددت عليهم في كتابك المفيد حول الديمقراطية والتعددية الحزبية، وكذلك رد عليم آخرون من أهل العلم، لكن أهل الأهواء ابتدعوا شبهة جديدة ليتمسكوا بها عندما وجدوا غيرها من الشبه مردودة، وهي أن الصحابة دعوا الله لينصر النجاشي على أعدائه قبل إسلامه، مع أنه كان يحكم قومه بشريعة منسوخة .. وهذه بعض ألفاظ الحديث: قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، أمنَّا على ديننا، وعبدنا الله لا نؤذى، ولا نسمع شيئاً نكرهه .. فوالله إنا على ذلك إذ نزل به، يعني من ينازعه في ملكه، قالت: فوالله ما علمنا حزنا قط كان أشد من حزن حزنا عند ذلك تخوفا أن يظهر ذلك على النجاشي، فيأتي رجل لا يعرف من حقنا ما كان النجاشي يعرف منه ... ودعونا الله للنجاشي بالظهور على عدوه والتمكين له في بلاده ..".

الذي يظهر لي أن هذا كان بعد إسلامه، لكنهم يصرون أنه كان قبل إسلامه، ثم أتوا مع هذه الحادثة بشبهة قريبة، وهي أن الصحابة فرحوا بنصر الروم على الفرس مع أنه يتضمن تحكيم الروم بشريعتهم الجاهلية في الأرض الذي استولوا عليها.
فهلا تساعدنا بالإجابة على هذه الشبهة، و أظن الإجابة ستكون أفضل إذا تضمنت الرد على التالي، بالإضافة إلى غيرها مما تراه مفيداً:
هل كانت قصة الدعاء قبل إسلام النجاشي أم بعده؟
 لو قلنا جدلاً أن القصة كانت بعد إسلامه، فهل الدعاء بنصر طائفة كفر على أخرى من الكفر؟
وهل يجوز أن يقال إن الدعاء لنصر طائفة كفر على غيرها من الكفار يتضمن الدعاء بطلب تحكيم طاغوت في الأرض وتمكين حكمه الكفري؟
 هل رجاء نصر طائفة كفرية على أخرى والفرح بذلك يتضمن الفرح والرجاء
بتمكين طاغوت ليحكم بحكمه الجاهلي؟
 هل يجوز لمسلم أن يدعو الله أن ينصر حزب كافر على حزب آخر إذا كان يرى أن هناك مصلحة في فوزه؟ 
وما الفرق بين الدعاء بذلك والتصويت في الانتخابات الجاهلية لهذا الحزب؟
 بارك الله فيك .. ونسأل الله أن ينفعنا بعلمك.
الجواب: الحمد لله رب العالمين. أجيب عن سؤالك أعلاه من خلال النقاط التالية:
1- دعاء الصحابة للنجاشي يحتمل أن يكون قبل إسلامه أو بعد إسلامه، والراجح أن دعاءهم له كان بعد إسلامه، كما في الأثر عن عبد الله بن الزبير قال: قوله تعالى:) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (المائدة:83. نزلت هذه الآية في النجاشي وأصحابه ا- هـ. فالآية دلت على جملة من الأمور: سماعهم ما أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، وبكاؤهم، ومن ثم إيمانهم.
والثابت أن النجاشي وأصحابه كان بكاؤهم لما سمعوا ما أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم من التنزيل، ومن ثم إيمانهم .. عند وصول الصحابة إلى الحبشة، وإرسال مشركي قريش في طلبهم .. وقبل دعائهم له بأن ينصره الله على من نازعه في الملك .. وذلك عندما تلا عليهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه صدراً من سورة مريم، يوضح ذلك ما جاء في نفس حديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت:" فقال النجاشي لجعفر: هل معك ما جاء به عن الله من شيء؟ قالت: فقال له جعفر: نعم، فقال له النجاشي: فاقرأه علي، فقرأ عليه صدراً من ) كهيعص ( قالت: فبكى والله النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكى أساقفته حتى أخضلوا مصاحفهم حين سمعوا ما تلا عليهم،  ثم قال النجاشي: إن هذا والله، والذي جاء به عيسى، ليخرج من مشكاة واحدة انطلقا فوالله لا أسلمهم إليكم أبداً ولا أكاد .."ا هـ.
وقوله " انطلقا " كان موجهاً لعبد الله بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي، وعمرو بن العاص بن وائل السهمي اللذين أرسلتهما قريش إلى النجاشي في طلب ورد الصحابة.
فإن عُلم ذلك بطل تعلقهم بحديث النجاشي أعلاه!
2- على افتراض ترجيح القول بأن دعاءهم له كان قبل إسلامه .. لكن يقيناً كان بعد إقرار النجاشي بعقيدة التوحيد، وأن عيسى عليه الصلاة والسلام هو عبد الله ورسوله .. وأن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم هو نفسه الذي أنزل على عيسى عليه الصلاة والسلام يخرج من مشكاة واحدة .. وهذا يعطي إشارة ودليلاً أن الرجل إن لم يكن قد آمن فهو في طريقه نحو الإيمان بدعوة ونبوة محمد صلى الله عليه وسلم.
هذا الموقف الإيماني التوحيدي من النجاشي .. إضافة إلى نصرته للصحابة المهاجرين إلى أرضه وحمايته لهم من أن ينزل بساحتهم أي سوء .. ومنحهم كامل الحق والحرية في أن يعبدوا الله تعالى ويظهروا دينهم ودعوتهم .. إضافة إلى كونه لا يُظلَم عنده أحد كما وصفه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .. يستدعي هذا التعاطف من الصحابة والمتمثل في دعائهم له بأن ينصره الله على عدوه الذي يُنازعه الملك.
3- أن تتمنى وتدعو الله بأن ينصر رجلاً كالنجاشي ـ قد تقدمت بعض صفاته الإيمانية النبيلة ـ على رجلٍ كفره مغلظ لا يُراعي في المؤمنين إلاً ولا ذمة .. شيء .. وأن تُشارك في الإقرار بربوبية المخلوق على المخلوق من خلال الإقرار له بأن له حق التشريع على العباد من دون الله ـ كما هو حال الانتخابات البرلمانية التشريعية ـ شيء آخر .. والاستدلال بالأول على الثاني من قبيل الاستدلال بالشرق على الغرب، وبالاستدلال بالشيء على نقيضه!
أن تتمنى وترغب بأن يُظهر الله قوماً هم أقرب إلى الحق على قوم هم أشد كفراً وأبعد منهم عن الحق .. شيء .. وأن تُشارك في الإقرار بربوبية المخلوق على المخلوق من خلال الإقرار له بأن له حق التشريع على العباد من دون الله ـ كما هو حال الانتخابات البرلمانية التشريعية ـ شيء آخر .. لا يخلط بينهما إلا جاهل يتتبع الشبهات ويرعى حول الحمى!
أن تتمنى وترغب بأن يُظهر الله قوماً هم أقرب إلى الحق على قوم هم أشد كفراً وأبعد منهم عن الحق .. شيء .. وأن تشارك ـ من أجل هذا الظهور ـ الطرف الأول الأقرب للحق القتال ضد الطرف الآخر الأبعد والأكفر .. شيء آخر .. لم يقل به أحد من أهل العلم .. علماً أن القتال معه ضد الطرف الآخر الأشد كفراً أهون بكثير من ممارسة الربوبية والألوهية على العباد .. أو من الإقرار بربوبية وألوهية المخلوق على المخلوق من خلال الإقرار له بأن له حق التشريع والطاعة على العباد من دون الله عز وجل!
عندما تتمنى دفع ظالم قد اشتد ظلمه وكفره بظالم أقل منه ظلماً .. لا يعني الإقرار والرضى بما عند الآخر من الظلم؛ وإنما يعني دفع الضرر الأكبر بالضرر الأصغر عندما يستحيل دفعه إلا من خلال ارتكاب هذا الضرر الأصغر .. وهو من قبيل العمل بقوله صلى الله عليه وسلم:" إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوامٍ لا خلاق لهم "، فيدفع الله بهم الكفار الأشد فجوراً وظلماً .. وهذا لا يعني إقرار ومباركة فجورهم وأخلاقهم السيئة!
بينما ممارسة الربوبية والألوهية على المخلوق ـ كما هي مهمة النائب المشرع في الأنظمة البرلمانية النيابية الديمقراطية ـ أو الإقرار للمخلوق بأن يُمارس خصائص الربوبية والألوهية على المخلوق ـ كما هو الحال في الأنظمة البرلمانية النيابية الديمقراطية ـ هو إقرار ومباركة للكفر والشرك .. والشرك هو الضرر الأكبر الذي لا يعلوه ضرر، وظلم أكبر لا يعلوه ولا يوازيه ظلم، كما قال تعالى:) إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (لقمان:13.
كما أن في ذلك إبطال للغاية التي خلق الله تعالى من أجلها الخلق .. وأنزل الكتب .. وأرسل الرسل .. الغاية التي ترخص في سبيلها جميع الغايات والمقاصد والمصالح .. ألا وهي غاية التوحيد؛ المتمثلة في إفراد الخالق سبحانه وتعالى بالعبادة، والكفر بالطاغوت!
كما قال تعالى:) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ (النحل:36. 
وقال تعالى:) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (الذاريات:56.  
وقال تعالى:) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهاً وَاحِداً لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (التوبة:31.
وقال تعالى:) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (البينة:5.
وقال تعالى:) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (آل عمران:64.
كيف ندعو الآخرين إلى هذه الكلمة سواء بيننا وبينهم .. ثم نحن من جهة أخرى نقر ونبارك ونمارس هذه الربوبية من دون الله .. إن الوقوع في مثل هذا التناقض المخجل مبطل للدعوة من أساسها!
والله تعالى يقول:) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ . كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ (الصف:2-3.   
4- الاستدلال بموقف الصحابة رضي الله عنهم أجمعين من النجاشي وصراعه مع من نازعه الملك، وكذلك موقفهم من الصراع الذي دار بين الروم والفرس .. على شرعية ممارسة الانتخابات التشريعية النيابية، وشرعية المشاركة فيها تصويتاً وتمثيلاً هو من قبيل الاستدلال بالمتشابه .. وتقديم المتشابه على المحكم .. ورد المحكم بالمتشابه ـ والآيات الآنفة الذكر أعلاه هي بعض الأدلة المحكمة في هذا الشأن ـ وهذا خلق لا يقدم عليه إلا من كان في قلبه مرض وزيغ وهوى، كما قال تعالى:) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ (آل عمران:7. بهذا أجيب عن سؤالك أعلاه، والله تعالى أعلم.