شبهات حول الإكراه


          س142: عصمنا الله بالتقوى، ووفقنا لموافقة الهدى ) يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات ( .. ) وقل ربي زدني علماً (، وبعد: لقد سعدنا كثيراً بتفسيركم لقصة العباس وموقف النبي -صلى الله عليه وسلم- منه يوم بدر، وهو الموافق لتفسير الآية:) إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها ( فجزاكم الله خيراً لتنبيهنا لتلك النقطة .. وإن كان لا يزال هناك إشكال في فهمنا لمقولة شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى:19/224- 225:وقد يُقاتلون وفيهم مؤمن يكتم إيمانه يشهد القتال معهم ولا يمكنه الهجرة، وهو مكره على القتال ويُبعث على نيته كما في الصحيح عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال:" يغزو جيش هذا البيت فبينما هم ببيداء من الأرض إذ خسف بهم، فقيل يا رسول الله وفيهم المكره ؟ قال: يُبعثون على نياتهم " وهذا في ظاهر الأمر، وإن قتل وحكم عليه بما يُحكم على الكفار، فالله يبعثه على نيته كما أن المنافقين منا يحكم لهم في الظاهر بحكم الإسلام ويُبعثون على نياتهم والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر ......

          ولهذا روي أن العباس قال يا رسول الله كنت مكرهاً قال: أما ظاهرك فكان علينا وأما سريرتك فإلى الله .. ا- هـ.
          فهذا إقرار من شيخ الإسلام رحمه الله ـ على حد علمي ـ بالكفر حكماً وليس على الحقيقة على كل من خرج إلى القتال مع الكفار، ولو كان مؤمناً مكرهاً في الحقيقة ؟؟
          ثم سؤالنا لفضيلتكم حفظكم الله وزادكم علماً .. ما وجه استدلال شيخ الإسلام رحمه الله بحديث العباس على هذا الحكم .. وحقيقة قوله " ولا يمكنه الهجرة " مع ما تقرر لدينا أنه كان يستطيع الهجرة ..؟؟ 
          هذا بالنسبة لحديث العباس أما بالنسبة لإجماع الصحابة رضوان الله عليهم ـ فهو على حد علمي ـ قد ثبت بالقول وبالفعل وبالإقرار، أما القول: فهو قول أبي بكر " وتكون قتلاكم في النار " ووافقه عمر وتتابع القوم على قول عم ر كما في حديث طارق بن شهاب، وأما الفعل: فهو أن الصحابة قاتلوهم جميعاً على صفة واحدة؛ وهي صفة قتال أهل الردة ولم يُفرقوا بين تابع
ومتبوع، وأما الإقرار: فهو أنه لا يُعرف مخالف أو منكر من الصحابة لهذا .
          وكون قول أبي بكر -رضي الله عنه- " وتكون قتلاكم في النار " عندما ذكرناه كدليل على تكفيرهم عيناً فإنما كان ذلك باستدلالنا على قول الطحاوي " ونرى الصلاة خلف كل بر وفاجر من أهل القبلة، وعلى من مات منهم، ولا نُنزل أحداً منهم جنة ولا نارا " إنما كانت الشهادة بالنار تجوز كما لا يخفى عليكم على كل من مات على الكفر كقوله عليه الصلاة والسلام:" حيثما مررت بقبر كافرٍ فبشره بالنار ".
          وأخيراً حتى لا نطيل عليكم نريد من فضيلتكم توضيحاً أكثر لمقولتكم " فمن ثبت تكفيره من قبل السلف بعينه فهذا لا يكون مكرهاً الإكراه المعتبر .. ولا جاهلاً الجهل المعتبر " فأنى لهم أن يعلموا هذا وهم لم يتبينوا في حقهم توفر الشروط وانتفاء الموانع لما كانوا ممتنعين بالشوكة، وقد كانوا ألوفاً، فقد ذكر ابن تيمية أن أتباع مسيلمة كانوا نحو مائة ألف أو أكثر ..؟!
          الجواب: الحمد لله رب العالمين. أجيب على ما تقد م من أسئلة واعتراضات في النقاط التالية:
          1- يُستفاد من كلام شيخ الإسلام أن عسكر الكفر يُقاتل بما فيهم المكرهين على القتال مع المؤمنين .. لصعوبة تمييزهم عن الكافرين .. ولوجودهم في صفوف القتال مع الكافرين .. وأن المكرهين من المؤمنين يُبعثون على نياتهم يوم القيامة .
          مع ضرورة التنبيه إلى أن هذا المؤمن المكره الذي يكثر سواد الكافرين لا يجوز له أن يُباشر مهمة قتال المسلمين .. ولو كان مكرهاً .. فالإكراه يبرر له الخروج .. ولا يبرر له مباشرة القتال .. ولو كان على وجه الدفاع عن النفس .. وإن أدى عصيانه إلى قتله من قبل المشركين .. فدمه ليس أعز من دم إخوانه المسلمين ..!
          فإن باشر القتال مع المشركين ضد المسلمين فإنه يضعف في حقه عذر الإكراه كمانع من موانع لحوق الوعيد بالمعين .. إن لم يزل كلياً !
          2- ويُستفاد كذلك أن هؤلاء المكرهين من المؤمنين يأخذون حكم الكافرين في الدنيا على اعتبار ظاهرهم .. وصعوبة معرفتهم أو تمييزهم .. فيأخذون لأجل ذلك وصف وحكم العسكر الذي هم فيه .. والله تعالى يتولى سرائرهم يوم القيامة .. ولو أمكن معرفتهم أو تمييزهم بأعيانهم لم جاز الحكم عليهم بالكفر أو الخلود في النار .. ولو كانوا صرعى بين قتلى المشركين .. والله تعالى أعلم.
          فإن قيل علام قد نفيت من قبل تكفير الصحابة لأعيان المكرهين على القتال في صفوف المرتدين ..؟!
          أقول: الذي نفيناه .. وننفيه جواز الحكم على المعين بالكفر أو الخلود في النار .. مع العلم
المسبق أن هذا المعين إنما حمله على الوقوع في الكفر الإكراه المعتبر شرعاً.
          والذي أثبتناه ونثبته ما تقدم ذكره؛ وهو الحكم على المعين المكره بالكفر والخلود في النار لاعتبار ظاهره المكفر الذي وافته المنية عليه .. ولجهلنا بأنه من المؤمنين المكرهين المعذورين .. والله تعالى أعلم.
          3- أما سؤالكم عن وجه استدلال شيخ الإسلام بحديث العباس على هذا الحكم، وحقيقة قوله " ولا يمكنه الهجرة " مع ما تقرر لدينا أنه كان يستطيع الهجرة ..؟!
          أقول: إن شيخ الإسلام قد استدل بحديث العباس على أن الجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر .. ولم يستدل به على مسألتنا المتقدمة أو " على هذا الحكم " كما قلت !
          أعد قراءة كلامه من جديد .. وإليك كلامه:" والجزاء يوم القيامة على ما في القلوب لا على مجرد الظواهر؛ ولهذا روي أن العباس قال .. " الخ.
          فهو أولاً ابتدأ كلامه كفقرة جديدة عن الفقرة التي قبلها .. ثم جاء استدلاله بما روي عن ابن عباس كجملة تفسيرية لما جاء قبلها من كلام .. فانتبه إلى " الفاصلة التفسيرية المنقوطة " التي تفسر ما قبلها .. والتي حذفتها ووضعت بدلاً عنها عدة نقاط التي توحي بوجود كلام لشيخ الإسلام لا دخل له في المسألة قد تجاوزته للاختصار، وهذا لا شك أنه يخل بالمعنى الذي يريده شيخ الإسلام!
          4- ومما يمكن أن يُقال كذلك أن معنى قوله -صلى الله عليه وسلم- للعباس:" ظاهرك فكان علينا، وأما سريرتك فإلى الله "؛ أي أن ظاهرك الذي كان علينا لا يدل على أنك كنت مكرهاً الإكراه الشرعي الذي يعذر .. فالله تعالى يتولى سريرتك، وهو الأعلم بك هل كنت صادقاً في دعواك الإكراه أم لا .. والذي يعيننا على هذا الفهم أن جواب النبي -صلى الله عليه وسلم- كان رداً على كلام العباس الذي زعم فيه أنه كان مكرهاً ..!
          ومما أضعف من اعتذار العباس بالإكراه كذلك أنه قد باشر القتال .. وهذا ليس من شأن المكره كما أفدنا من قبل، كما في رواية السدي قال: لما أسر العباس، وعقيل، ونوفل قال النبي -صلى الله عليه وسلم-:" افد نفسك وابن أخيك "، قال يا رسول الله: ألم نصلِّ قبلتك، ونشهد شهادتك ..؟ قال:" يا عباس إنكم خاصمتم فخُصمتم، ثم تلا عليه هذه الآية:) ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا فيها (.
          5- إلزام الصحابة للمرتدين بأن يقولوا:" أن قتلاهم في النار " ليس فيه دليل على موطن الخلاف؛ وهو تكفيرهم للمعين المكره من المؤمنين بأنه كافر ومن أهل النار .. وعبارتهم المتقدمة صيغة من صيغ العموم كما تقدمت الإشارة إلى ذلك.
          6- لا وجه لاستدلالك بكلام الطحاوي على تكفير المعين .. فكلام الطحاوي المنقول يفيد أنه لا يجوز أن نشهد لأحد بعينه ـ ممن لم يرد فيهم نص ـ من أهل القبلة بجنة ولا نار .. فكلامه بواد ومسألتنا في وادٍ آخر .. مع ضرورة التنبيه أنه يجوز لنا أن نشهد لأهل القبلة على وجه العموم بالجنة، كأن نقول: قتلى المسلمين شهداء وهم في الجنة .. قتلانا في الجنة .. وقتلى المشركين في النار .. ونحوها من العبارات العامة، فهذا لا حرج فيه إن شاء الله.
          7- قولك " فأنى لهم ـ أي السلف ـ أن يعلموا هذا وهم لم يتبينوا في حقهم توفر الشروط وانتفاء الموانع لما كانوا ممتنعين بالشوكة، وقد كانوا ألوفاً .. " الخ .
          أقول: كلامك هذا ليس دقيقاً؛ فقد ثبت أن الصحابة كانوا يتثبتون .. ويحققون .. ويُحاجون من يجدونه في سلطان مسيلمة الكذاب ممن أشكل عليهم حقيقة موقفه، كما حصل مع خالد بن الوليد وهو في مسيره إلى أهل اليمامة لما ارتدوا، فأرسل مائتي فارس وقدمهم كطليعة لجيشه، وقال لهم من أصبتم من الناس فخذوه، فأخذوا " مُجاعة " في ثلاثة وعشرين رجلاً من قومه، فلما وصل إلى خالد، قال له: يا خالد، لقد علمت أني قدمت على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في حياته فبايعته على الإسلام، وأنا اليوم على ما كنت عليه أمس، فإن يكُ كذاباً قد خرج فينا فإن الله يقول:) ولا تزر وازرة وزر أخرى (!
          قال خالد: يا مجاعة تركت اليوم ما كنت عليه أمس، وكان رضاك بأمر هذا الكذاب وسكوتك عنه، وأنت أعز أهل اليمامة، وقد بلغك مسيري، إقرار له ورضاء بما جاء به !
          فهل لا أبيت عذراً، وتكلمت فيمن تكلم؛ فقد تكلم ثمامة فرد وأنكر، وتلكم أليشكري .. فإن قلت أخاف قومي، فهلا عمدت إلي أو بعثت إلي رسولاً ..؟!!
          فقال مُجاعة: إن رأيت يا ابن المغيرة أن تعفوا عن هذا كله ..؟!
          قال خالد: قد عفوت عن دمك، ولكن في نفسي حرج من تركك ..!! [ مجموعة التوحيد:199 ].
          أقول: القصة فيها فوائد عدة وعظيمة يخصنا منها: إثبات ما كنت قد نفيته بأن الصحابة لم يكونوا يتبينوا في حقهم توفر الشروط وانتفاء الموانع .. والله تعالى أعلم.
          8- وفي الختام أود أن أخبرك يا صقر أني أحبك في الله .. راجياً الله تعالى أن يكثر في الأمة الصقور .. وأن يقتل خفافيش الدجى والنفاق والإرجاف ..