Pages

سؤال حول كلام للشيخ ابن عثيمين رحمه الله تعالى



س87: قال الشيخ ابن عثيمين رحمه الله في جواب على سؤال وجّه إليه عبر الهاتف:" وأما إذا كان يشرع حكماً عاماً تمشي عليه الأمة يرى أن ذلك من المصلحة وقد لُبس عليه فيه فلا يكفر أيضاً لأن كثيراً من الحكام عندهم جهل في علم الشريعة، ويتصل بهم من لا يعرف الحكم الشرعي وهم يرونه عالماً كبيراً فيحصل بذلك المخالف، وإذا كان يعلم الشرع، ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستوراً يمشي الناس عليه، يعتقد أنه ظالماً في ذلك، وأن الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فإننا لا نستطيع أن نكفر هذا " انتهى. ويمكنكم الرجوع للجواب كاملاً عبر هذا الربط في الإنترنت ...
          فما تقييمكم للكلام السابق وفق معتقد أهل السنة والجماعة في مسائل التكفير .. وجزاكم الله خيراً ؟
          الجواب: الحمد لله رب العالمين . فقد اطلعت على الموقع في الإنترنت الذي فيه فتوى الشيخ فوجدت كلامه كما نُقل في السؤال، وعليه فأقول: كلام الشيخ المتقدم ينقسم إلى قسمين: قسم أصاب فيه؛ وهو يبتدئ من أول كلامه إلى قوله: فيحصل بذلك مخالف .. !

          وقسم نرى أنه أخطأ فيه وحايد الصواب؛ وهو يبتدئ من قوله:" وإذا كان يعلم الشرع .." إلى آخر كلامه.
          وبيان الدليل على ما اتفقنا عليه ليس مهماً لحصول الاتفاق؛ لذا سنقتصر على بيان الدليل على ما اختلفنا فيه، ونعتقد خطأ الشيخ فيه، وذلك في النقاط التالية:
          1- أن المشرع الذي يشرع التشريعات المضاهية والمغايرة لشرع الله تعالى ـ مع علمه بذلك ـ ثم يجعل من تشريعاته هذه دستوراً ملزماً للأمة أو لمن يحكمهم من الناس .. فهو كافر نصاً وإجماعاً، وهو طاغوت من أكبر وأشد عتاة الطواغيت .. لا ينبغي لمسلم أن يتردد في تكفيره، وذلك لأوجه منها: أن التشريع من أخص خصائص وصفات الله تعالى .. ومن يجعل لنفسه ـ من دون الله تعالى ـ هذه الخاصية، فقد جعل من نفسه نداً لله تعالى في أخص خصائصه سبحانه وتعالى !
          قال تعالى:] إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه [ . وقال تعالى:] ولا يُشرك في حكمه أحداً [ . وقال تعالى:] أم لهم شركاء شرعوا لهم من الدين ما لم يأذن به الله [. فأثبت الله تعالى في الآية الأولى أنه تعالى وحده المتفرد بخاصية الحكم والتشريع .. ثم نفى عن نفسه سبحانه وتعالى أن يكون له شريك في الحكم والتشريع .. كما أنه تعالى سمى الذين يشرعون للعباد بغير سلطان من الله ـ وبما لم يأذن به ـ شركاء وأنداد ..!
          والشرك لا يُطلق إلا لنوع عبادة تصرف لغير الله تعالى .. والشريك لا يُسمى شريكاً لله تعالى إلا عندما يزعم لنفسه خاصية من خصائص الله تعالى وحده !
          ومنها: أن الله تعالى قد سمى الذين يشرعون من دونه أرباباً .. ومن يطيعهم فيما يُشرعون، ويحللون ويحرمون عباداً لهؤلاء الأرباب، كما قال تعالى:] اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله [، وقد فسر النبي -صلى الله عليه وسلم- اتخاذهم أرباباً من دون الله تعالى بطاعتهم فيما يشرعون من الحلال والحرام بغير سلطان من الله تعالى، وبخلاف ما أمر وشرع سبحانه وتعالى.
          ومنها: أن ألوهية فرعون وغيره من الطواغيت جاءت من جهة إثباتهم لأنفسهم خاصية التشريع .. وأنهم السلطة الوحيدة التي يُرجع إليها فيما يجوز أو لا يجوز، كما قال تعالى عن الطاغية فرعون:] وقال فرعون يا أيها الملأ ما علمت لكم من إله غيري [؛ أي ما علمت لكم من حاكم ومشرع ومرجع ترجعون إليه في جميع شؤون حياتكم غيري، وهذا المعنى قد صرح به بقوله كما قال تعالى عنه:] ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد [ ..
          وقال تعالى:] ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم كذلك نجزي الظالمين [؛ والذي يقول عن نفسه ـ من دون الله تعالى ـ أنه المشرع أو أن له أن يشرع للعباد .. وعلى العباد طاعته فيما يُشرع .. فقد جعل من نفسه إلهاً .. وزعم لنفسه الألوهية علم بذلك أم لم يعلم ..وسواء سمى ذلك ألوهية وربوبية أم لم يسمها !
          ومنها: أن كفر هذا النوع من الحكام قد نص عليه جميع علماء الأمة المتقدمين منهم والمتأخرين، ولا يشك في كفرهم وشركهم إلا من طمس الله بصيرته وأعماه عن نور الوحي، كما يقول الشنقيطي رحمه الله في تفسيره لقوله تعالى:] ولا يُشرك في حكمه أحداً  [.
          وقال ابن كثير في تعليقه على ياسق التتار:" من فعل ذلك كفر بإجماع المسلمين " ا- هـ. ولو أردنا أن نتوسع بذكر أقوال أهل العلم في المسألة لطال بنا المقام، ولاستغرق ذلك منا مصنفاً كاملاً !
          ومنها: أن هذا المشرع الذي يشرع ويسن القوانين قد سماه الله تعالى طاغوتاً لا يستقيم إيمان المرء إلا بالكفر به، كما قال تعالى:] ألم تر إلى الذين يزعمون أنهم آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك يريدون أن يتحاكموا إلى الطاغوت وقد أمروا أن يكفروا به ويريد الشيطان أن يضلهم ضلالاً بعيداً [ . 
          2- قول الشيخ أن هذا المشرع للدساتير الوضعية والتي يحكم بموجبها الناس إن اعتقد أنه ظالم وأن الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فإننا لا نستطيع أن نكفر هذا .. هو خطأ كبير نرد عليه من وجهين:
          أولهما: أن هذا الشرط للتكفير ـ شرط تعجيزي خيالي لا واقع له ـ ما أحد يأتي به .. ولا أحد يصرح به .. بل ما من أحد إلا ويعتبر تشريعه ودستوره هو الأمثل، وهو النموذج الذي أحاط بالخير من جميع جوانبه .. وهو الحق الذي يجب أن يتبع .. وما سواه فهو الباطل، وإن لم يعترف بلسانه بذلك فلسان حاله وعمله كله يدل على ذلك ..!
          آتوني بمشرع واحد على ممر التاريخ وإلى يومنا هذا يعترف أنه ظالم أو أنه يُشرع الظلم للعباد .. وأن تشريع ما سواه حق وتشريعه باطل .. لا يوجد ؟!!
          لذا فإن إقحام مسألة " أن يعتقد أنه ظالم .. " في هذا الموضع هو للمشاكلة .. ولتأخير أحكام الله تعالى من أن تأخذ طريقها إلى هؤلاء الطواغيت الأنداد .
          ثانياً: ثم على افتراض اعتقد وأقر أنه ظالم فيما يُشرع للعباد .. وفيما تقمصه من خصائص وصفات الألوهية .. ماذا ينفعه هذا الاعتقاد أو الإقرار ؟!!
          فهو مثله مثل من يقول: أنا إله وعلى العباد طاعته وعبادته .. وفي المقابل يعتقد أنه ظالم في دعواه هذا .. ماذا ينفعه هذا الاعتقاد مع هذا الكفر البواح ؟!!
          اليهود كانوا يعتقدون أن النبي حق .. وأن ما جاء به من عند ربه هو الحق .. وأنهم ظالمون
بمعاداتهم له -صلى الله عليه وسلم-  .. ومع ذلك لم ينفعهم شيئاً .. لعدم متابعتهم للنبي -صلى الله عليه وسلم- ورضاهم بحكمه وشرعه .. وهم كفار بالنص والإجماع .
          وأذكر هنا توسع بعض الإخوان في الجزيرة في استخدامهم لحرف العطف " ثم " الوارد في قوله -صلى الله عليه وسلم-:" قل ما شاء الله ثم ما شئت " .. فأنزلوها في غير منزلها الصحيح حيث تراهم يستخدمون " ثم " في مواضع الشرك وهم لا يدرون؛ ظناً منهم أن "ثم" تتشفع لهم في كل شيء، وفي كل تعبير أو إطلاق: كأن يقول أحدهم: أوالي في الله ثم في فلان .. أطيع الله تعالى ثم فلان .. أقاتل في سبيل الله ثم في سبيل فلان .. وهو نفس القول: أعبد الله ثم فلان ..!
          وهكذا أرى أن بعض الشيوخ قد توسعوا في استخدام قيد الاعتراف بالظلم إلى أن اعتبروه عذراً لمن يدعي الإلهية إن اعتبر نفسه ظالماً .. ومانعاً له من تكفيره !!
          3- نسأل الشيخ ـ والشيخ قد مات رحمه الله! ـ كيف نوفق بين اعتقاده في قلبه أنه ظالم، وأن ما جاء في الكتاب والسنة هو الحق، وما سواه هو الباطل، وأنه يجب عليه أن يحكم بكتاب الله وسنة رسوله، وأن لا يقدم عليهما حكماً .. ثم هو لا يحكم بالكتاب والسنة .. بل يحكم العباد بشرائع سنها من عند نفسه .. تضاهي وتغاير ما شرعه الله تعالى .. وجعلها دستوراً ملزماً للناس .. كيف نوفق بين ذلك وبين عقيدة أهل السنة والجماعة في الإيمان بأنه: اعتقاد وقول وعمل، يزيد وينقص .. وبين العلاقة المتبادلة بين الباطن والظاهر، وأن كلاً منهما يؤثر ويتأثر بالآخر .. كما جاء ذلك في نصوص عديدة من الكتاب والسنة.
          كيف نوفق بين باطنه السليم المؤمن المحب لله تعالى ولشرعه وحكمه .. وبين ظاهره المتمرد على حكم الله تعالى وشرعه .. وكيف نوفق بين باطنه الذي يقول أنه عبد لله تعالى وبين ظاهره الذي يقول أنه ند لله تعالى .. ؟!!     
أم أن الباطن يسير في اتجاه .. والظاهر يسير في اتجاه معاكس ومخالف ؟!!
والنبي -صلى الله عليه وسلم- يقول:" ألا إن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب " ..! 
4- ليس للشيخ فيما قاله سلف واحد من علماء الأمة .. وأرجو أن لا يُقال هنا كفر دون كفر كما قال ابن عباس .. فما قاله ابن عباس -رضي الله عنه- في واد .. وما قاله ابن عثيمين في وادٍ آخر، ولا أرى مقولة لسلفنا الصالح ظُلمت، كما ظلمت مقولة ابن عباس هذه: كفر دون كفر ..!!
 لأجل هذه الأسباب مجتمعة نعتقد خطأ الشيخ ـ رحمه الله ـ فيما تقدمت الإشارة إليه، وأنه لا يجوز أن يتابع فيه .. والله تعالى أعلم .
مع التنويه إلى وجود أخطاء أخرى ـ قد نتعرض لها في موضع آخر ـ وردت في فتوى الشيخ لا تقل عما أشرنا إليه .. لم نرد عليها، وإنما اكتفينا بما ورد السؤال عنه، والله تعالى وحده الموفق والهادي إلى سواء السبيل.
          وإن كنت أعجب فأعجب لأناس يتصيدون زلات العلماء والشيوخ ليأخذوا منها رخصة لما هم عليه من التقصير والانحراف، والفهم الخاطئ .. وليستدلوا بكل حرف من أحرفها ـ ليقاتلوا بها الآخرين ـ  وكأنها قرآن منزل لا تقبل التعقيب أو الرد .. ولا حول ولا قوة إلا بالله !